بعد يومان من الآن سيتم بإذن الله تعالى التصويت لإختيار أعضاء مجلس الشورى للفترة الثامنة ، ولن أتحدث عن الطموحات التي نتمنى أن يصل إليها هذا المجلس ، ولا حتى عن سقف الصلاحيات الممنوحة ، ولن أكتب عن الخيبات السابقة للمرشحين ، ولا النتائج السلبية للدورات الماضية ، فقط أكتب عن الناخب وليس المترشح.
في عصر التطور والصلاحيات المتطورة ، وفي وقت الإنفتاح رغم محدوديته ، إلا أن المشكلة التي تجعل من مجلس الشورى مجرد وظيفة مؤقته لكسب العيش والوصول لدرجات من التعارف وكسب المصالح الشخصية وفقط ، تكمن فينا نحن الذين نحدد من المرشح الناجح ومن الخاسر ، أو بعبارة آخرى من المتنفع من بين المرشحين.
نحن نحدد معايير الإنتخاب ، فكل مرشح يضع برنامجه الإنتخابي وفقاً لطموحات وتطلعات الناخب ، فإن كان الناخب يطمح لزيادة دخله ، فستجد المترشح يتحدث عن التفتح الإقتصادي وتنوع الدخل وزيادة معدل التوظيف وهلم جر.
يفترض أن يكون الصراع الإنتخابي مجرد معركة انتخابية تنتهي بإنتهاء التصويت وإعلان النتائج ، وأن لا يصل لدرجة الحرب والقطيعة ، بعكس ما نراه الآن من حروب بين الناخبين وليس المترشحين وهذه معادلة معكوسة تظهر مدى الفقر المعرفي ومدى ضحالة الفكر السياسي لدينا كمجتمع.
إن القبلية البغيضة والتعصب الغير محمود والتكاتف على شن الحروب والفرقة لهو أمر مذموم وعلينا دق ناقوس الخطر والبدء بإيجاد حلول مستقبلية لإنهاء حالة الهرج والمرج لدى بعض العقول المتحجرة.
أنا لا أقول أن القبيلة شر كله ، وأن الإجتماع على مرشح واحد تختارة القبيلة أو التجمعات القبلية شيء سيء بالضرورة ، ولكن النتيجة المرجوة من هذا التكتل والشخص المرشح الذي تم اختيارة هو ما يحدد النتيجة النهائية.
إن القانون كفل لكل شخص الحرية في أن يختار من يظن أنه المناسب لكرسي المجلس دونما أن يغفل أن علينا أن نختار حسب معايير دقيقة تكفل للمجتمع وللدولة نجاح من يخدم الجميع لا من يخدم نفسه وتجمعه.
إن المرشحين لعضوية المجلس ، كلهم أكفاء في أنفسهم ومجتمعاتهم ، ولكن هل هم الأنسب ؟ هنا السؤال.
لا يجب علينا أن نتشتت ونختلف وننشر الخلاف والشقاق بيننا كمجتمع من أجل أن يصل فلان أو علان للغنيمة والنجاح ، ونخسر نحن أنفسنا أولاً ، ومن ثم نخسر بعضنا ، وفي النهاية نخسر الوطن .
يجب علينا أن نعلنها وبصوت واحد ، لسنا دُماً بأيدي أحد لا زعامات ولا شيوخ ولا تجار ، نحن من نتخذ القرار ونحن من نجعل هؤلاء قادة ، ونحن أيضاً من جعلناهم مسيطرين على أفكارنا وعلى قراراتنا ، وفي الختام يزدادون سيطرة ونفوذ ، ولا خاسر سوى نحن الناخبين ، نحن نحسب كضحايا الحروب ، فكفانا نزيفاً ، وكفاهم إنكاراً.
فكرة أود أن تصل للجميع ، لا أضغان ولا أحقاد ، بل هي حرية مشروعة ومكفولة بالقانون ، فهل إن رشحت من أراه قادراً على إصال أفكاري وطموحاتي يعد جرماً ، بغض النظر هل نجح أم فشل؟
صوتي هو حقي لن ينتزعه مني أحد ، هذا أنا وهذا اختياري.
دمتم بحرية ، ودام الوطن في تقدم.
في ستينيات القرن الماضي وفي وسط العاصمة الفرنسية باريس تعيش عجوز تبلغ من العمر عتيا في شقة تقع في الطابق الثالث من بناية وسط الشارع.
تعيش هذه العجوز الوحيدة ، حيث ليس لها ولد ولا أحد يعينها في كبرها ، فقد مات أبناءها الثلاثة منذ بضع سنين.
كان أبناءها الثلاثة ( ولدين وفتاة ) قد تركوها تعيش لوحدها منذ أن كان عمرها ٤٠ عاماً فقد رحل أحد الولدين للعيش في أحدى الدول الأوروبية للعمل ولم تسمع عنه شيء إلا أنه قد مات بسبب حادث أثناء العمل.
أما الفتاة وأخيها الآخر فقد توفيا بمرض السل الذي أنتشر في أوروبا منذ مدة طويلة ، لتعيش العجوز باقي عمرها وحيدة عاجزة لا تقدر على شيء.
كانت تعيش على المال التي تحصل عليه كمعونة من الدولة والذي يكاد يكفي لدفع إيجار المنزل والمأكل والمشرب ، فقد كانت فقيرة لا يمكنها أن تصرف على شيء آخر ، لا دواء ولا لرعايتها ولا حتى على مستلزمات الحياة البسيطة.
لا تخرج من منزلها سوى لأخذ المبلغ المصروف لها بشكل يومي ثم تذهب لشراء طعامها وتعود لمنزلها ولا تخرج منه إلا في اليوم التالي ولنفس الغرض.
استمرت على هذه الحالة ما يزيد على الخمس سنوات ، لا يقطع روتين حياتها سوى القطة التي بدأت تزورها منذ أسبوع مضى لتقاسمها الطعام وبعض الماء.
فرحت العجوز بهذه القطة والتي أرجعت لها روح الحب والعطف وأصبحت ضيفتها الدائمة والوحيدة والتي كانت تشعرها بالحياة فكانت تخاطبها وتطعمها وكأنها أحد ابنائها الذين تركوها منذ زمن.
في عصر احدى أيام الشتاء الباردة ، وبينما كانت العجوز تطعم القط كعادتها ، اذ يطرق أحدهم الباب طرقات سريعة متتابعة بشكل مفاجئ ، تسائلت العجوز من يا ترى الذي يطرق الباب ولم يدق الباب منذ سنوات طويلة؟
فلما فتحت كان هناك شاب في مقتبل عمره ، وسيماً عليه ملامح الوقار على الرغم من ملابسه الرثه التي توحي بمدى فقره وضيق ذات اليد.
بادر الشاب بالتحية ثم طلب أن يدخل بسبب البرد القارص في الخارج إلا أن العجوز وبكل أدب ولباقة رفضة طلبه معللةً أنها وحيدة ولا تستقبل الضيوف ابداً ، إلا أنه ألح عليها وأن لديه موضوعاً مهماً لابد لها أن تسمعه ولكن ليس قبل أن يدخل وبعد إلحاح وافقت على طلبه.
بعد أن دخل الشاب وشعر بالدفء والراحة ، سألت العجوز ما الذي يريده ، وما هو الموضوع المهم الذي يريد أن يطرحه عليها؟
قال : أنا أسمي بيير وأنا أبن برنالرد أبنك الذي مات قبل سنوات في بلجيكا أثر حادث أثناء العمل وقد جئت منذ شهر وأنا أبحث عنكِ وها أنا وبعد عناء وجدتكِ.
شعرت العجوز بالصدمة ، فهي لم تكن تعرف أن أبنها كان لديه أبن وهو شاب الآن بل ويقف أمامها ، كيف ذلك وبعد كل هذه السنين من الوحدة والفقد ؟!
لم تستوعب الصدمة بل وقامت غاضبة تصيح لتقوم بطرده من منزلها وهي تقول ابني مات ولم يكن لديه ابناء ، أنا ليس لي أحفاد ، أخرج أخرج.
خرج الشاب وهو يحاول أن يفهما أنه لم يكن يعلم أن والدة أباه لا تزال على قيد الحياة ، إلا قبل عام من الآن وأنه كان في شوق ليتعرف عليها بل ولينتقل للعيش معها ، إلا أن العجوز قامت بطرده خارجاً.
جلست العجوز وهي في حالة من الصدمة ، والإرهاق والغضب وشيء من الحزن والفرح كان بداخلها عاصفة من الأحاسيس تجول بخاطرها ، مجموعة من كل شيء.
بعد يوم من زيارة الشاب لها ، وبعد أن زال ما بها من غضب وحزن ، جلسة وهي تفكر وتتسائل ، هل هذا الشاب صادق؟ هل هو ولد أبنها؟ هل فعلاً جاء للبحث عنها؟ ما الذي يمنع أن يكون كذلك؟ ما الذي يجبره على أن يتكبد عناء البحث والسفر وان كان كاذب؟ وحتى لو كان كاذب ما الفائدة التي ينتظره من عجوز لا تملك من حياتها شيئًا ولا حتى بقي من العمر الكثير؟
وقررت أنها ستجلس مع الشاب لتسمع منه ومن ثم تقرر إن كان صادقاً أم غير ذلك؟ ولكنها جلسة تنتظر يوم ويومان بل وثلاثة أيام ولم يأتي الشاب مرة اخرى يا ترى ماذا حدث معه؟
وبعد انتظار لأيام وترقب ، سمعت دق على الباب فهرعت مسرعة لتفتح الباب فإذا الشاب نفسه هو من ع الباب فاستقبلته ببشاشة وادخلته بسرعة الى المنزل ، استغرب الشاب طريقة التعامل الجديدة معه فكان يتوقع الأسوء
بادرت العجوز بالسؤال كيف مات ولدي؟ فأجابها وقص عليها سبب الوفاة وكيف كانت حياتهم قبل وبعد وفاته وأخبرها كيف أنهم عاشوا في ضيق وفقر وعوز بعد أن كانوا مستوري الحال.
أخبرها كيف ومتى علم أن له جدة لازالت على قيد الحياة وتعيش وحدها في باريس ، وأنه اراد أن يتعرف عليها وأن يعيش معها وما العناء الذي تكبده لإيجادها.
فرحت الجدة بالشاب وأخبرته أنها ستستقبله في شقتها ليعيش معها وأخبرته أنها لا تملك من المال سوى ما تاخذه من الضمان من مصروفات لا تكاد تكفيها لحياتها هي فكيف وهو يعيش معها.
عاش الشاب عندها وكان كل يوم يذهب من الصباح الباكر ولا يرجع الى في آخر الليل وهو يحمل القليل من الطعام يقدمه للعجوز.
تغيرت حياة العجوز بعد أن كانت لا تعيش الا من أجل قطتها أصبح لديها من يشاطرها حياتها ويحاول الإهتمام بها بل وإطعامها متى ما احتاجت له.
بعد شهور من الحياة الجديدة التي أصبح يعيش في الشقة ثلاثة العجوز والشاب والقطة كانت أياماً جميلة عاشتها العجوز بعد سنين الوحدة والفراغ.
أستمرت الحياة على حالها بضع شهور وفي احد الايام وعلى غير العادة لم يخرج الشاب من غرفته ظل يوماً كاملاً حبيس الغرفة.
استغربت العجوز حاله ودخلت لتسأله فوجدته حزينا كئيباً يغطي وجهه الشحوب فلما سألته عن حاله وبعد الحاح منها أخبرها ما به.
قال أنه اقترض مبلغ كبيرا من المال من رجل شرير لا يحتمل ان يتاخر عليه احد الديانة إلا يقتله شر قتله وأنه عليه ارجاع المال قريباً والا سيكون مصيره سيء.
قالت له العجوز وهي متأسفة تشعر بالعجز أنها لا تملك شيئاً من المال لتدفع ما عليه كما أن شقتها التي تسكن فيها مجرد شقة مأجرة.
لكن الشاب قال لها بل تستطيعين مساعدتي وظل يلتفت بنظراته حول الشقة والاثاث الذي بها وقال اعتقد أن بيع الأثاث قد يكفي.
وافقت العجوز على بيع الأثاث بحزن إلا قطعة واحدة وهي المزهرية التي كانت هديةً من زوجها الذي ورثها من أمة.
جاء المشتري للشقة لأخذ الأثاث فلما رأى المزهرية ألح على العجوز أن تبيعها له ولكنها رفضت فخرج ومعه الأثاث كله والشاب استلم المال وخرج.
غاب الشاب لعدة أيام والعجوز لوحدها مع قطتها ومن دون أثاث ، كان فرشها الأرض ولحافها مجرد قطعة صغيرة من قماش لا يكاد يقيها البرد.
جاء الشاب بعد أيام وكان في حالة متغيره لم يعد الشاب اللطيف الذي عرفته بل كان فضاً غليضاً قال لها أن المال الذي اخذه من بيع الأثاث لم يكفي وأن عليها أن تأخذ قرضاً حكومياً على راتب الضمان الذي تستلمه.
قالت كيف ذلك وهي لا تستطيع أن تدفع الايجار ولا ان تطعم نفسها الا من هذا الراتب ولكن الشاب اخذها بالقوة واجبرها على ان تذهب معه لتوقع على أوراق القرض ليستلم المال.
ذهبت معه مجبرة ووقعت على الأوراق وأستلمت المال وأخذه منها وذهب حتى أنه لم يوصلها للشقة بل تركها تعود لوحدها.
رجعت العجوز لشقتها وحيدة كئيبة تبكي ضعفها وقلت حيلتها ووحدتها في شقة لم تعد كشقتها السابقة بل خاوية على عروشها لا أنيس ولا جليس ولا حتى أثاث يشعرها بالدفء.
لم يعد لديها مال تدفع منه ايجار شقتها ولا لشراء طعامها مجرد جدران تشعرها بالظلم وحياة قاسية لم تكن تعرف فيها لحظات من الراحة حتى يآتي ظلام يقلب حياتها الى تعاسه.
جاء موعد دفع الإيجار فلما أخبرت صاحب الشقة أنها لا تستطيع دفع الايجار أمهلها أيام حتى تدفع والا سيقوم بطردها.
أخبرته بما حدث معها ، فرق لها وقال انه لا يستطيع تركها تعيش في شقته وهي لا تدفع لكنه سيقدم لها على طلب الإلتحاق بمصحات كبار السن ودور العجزه وسيحاول أن يتم قبولها.
بالفعل قدم الطلب وتم قبولها وانتقلت العجوز وقطتها والمزهرية إلى دار العجزة والى حياةٍ جديدة تتمنى أن تكون أفضل من سابقتها.
وبعد عدة أشهر جاء الى دار العجزة شخص غريب يسأل عنها فلما قابلها عرف بنفسه أنه تاجر أثاث وأنه من اشترى أثاث شقتها السابقة.
فرحبت به وسألته عن حاجته فقال المزهرية هي من جئت من أجلها قالت العجوز لا يمكنني أن أعطيك اياها فهي هدية قيمة ولكنه أصر على شرائها وقال أنها تحفة نادرة وقيمتها عالية جداً.
قال أن سيقيم مزاد على هذه المزهرية وأنها ستجلب لها الكثير والكثير من المال الذي سيخرجها من هذه الدار لتعيش مكرمة في بيتها.
وافقت العجوز على بيعها وأقيم المزاد الذي بيعت فيه المزهرية بقيمة عالية ليتم دفع المال الكثير للعجوز والتي فرحت فرحاً شديداً
قامت العجوز بشراء منزل لها كبير جداً فيه من الخدم ومن يرعونها من ممرضات و عناية ما يجعل ما تبقى من حياتها سعيدة جداً
لكن للأسف لم تمضي أيام حتى ماتت العجوز المسكينة وهي لم تستمتع بالمنزل الجديد ولا بحياتها السابقة لينتهي الموسم الأخير من حياتها وهي سعيدة رغم قِصرها.
تمر بالإنسان لحظاتٌ من الضعف يشعر فيها بالعجز وعدم المقدرة ، ولكن أن تصبح هذه اللحظات أوقات بل وأزمنة عندها تهتز أركان وتنهد أبنية.
لا يمكن أن يعيش الإنسان على وتيرة واحدة فتكون كل أوقاته قوة ، فالدنيا تدور كدوران الكرة بين الأقدام ، أحيان تكون فيها كاسب قوي وأحيان أخرى خاسر ضعيف ، فكيف ونحن نعيش في مجتمعات تنجر من الفوز والنجاح وتفرط بما بأيديها إلى خُسران مبين ، فنهدم أسوار العيش بالظلم ، والتعايش بالعنف ، والجيرة بالتنابز ، ونمحق العقل بالتعصب؟
يُقال أن الأمم تكون في أوج عطائها ورُقيها عندما تنسى أن ابناءها مختلفون ، ويزهو عصرها عندما يكون جل همها رفعتها ، وقد كنا كذلك عندما كنا على قلب رجل واحد.
إن العقل البشري يبنى كما تبنى الدور والقصور ، فالطوب هي خبراته اليومية التي يطورها الفرد كل يوم ، واللبنة هي الوعي ، العلم ، والإدراك ، والتعلم ، وأُس هذا كله الدين الذي عليه يبنى هذا الصرح .
أعلم كما يعلم الكل أن هناك شر لابد منه ، ولكن الخير أيضاً لازال موجود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فكم نرى ونسمع من أناس كَثْرَة تذمرهم من أن الخير نفذ وانتهى وأن أهله إندثروا مع إندثار الفضيلة ، وهذه نظرة غير صحيحة ففي كل الناس خير ، فلا تقنطوا من رحمة الله ولا تقنِطوا الناس.
أعلم أني أطلت المقال ، كما أعلم أن كلماتي قد لا يصل معناها إليكم ، ولكني أعلم أيضاً أني أعلم ماذا أريد من منها.
دمتم بفرح
منذ أن ولدت لم ترى امها ولم تعرف ما تعني كلمة الأم غير صورة معلقة في جدار غرفتها ، أنيقة ملامحها توحي بالحب والعطاء مبتسمة ذات وجة بشوش يشع بالفرح ، كانت أمها مجرد صورة !
خصصت ساعة في كل يوم لمطالعة الصورة ، تحكي لها عما يحدث معها في يومها وما شعورها تشتكي لها ضيقها وتبث أحاسيسها وتطلب مشورتها ثم تودعها بقبلة وذهب.
كانت راضية بهذا الواقع ، كانت تعتقد أن الأم هذه وظيفتها وهكذا يتعامل معها الكل ، كانت أمها مجرد صورة!
كبرت الطفلة وكانت لا تزال تقضي ساعتها أمام الصورة كما كانت تفعل ولكن الوقت قد حان للإنتقال من أجل الدراسة خارج البلاد رغم رفضها لكن اصرار والدها أجبرها على فراق أمها الصورة ، فكانت حزينة كئيبة وأظلمت الدنيا في وجهها.
سكنت في منزل عائلة جديدة وحياة اخرى ، كانت الأم في هذه الحياة ليست صور بل انسانة تتحرك وتتكلم وتفهم ما يقال لها وتشعر بالاخرين تتعامل معهم بكل حب وصبر كانت تجاوب ابنائها بصوت مسموع تحل مشاكلهم تمرض لمرضهم كانت الأم حياة ليست مجرد صورة.
لم تتقبل هذه البنت هذا النوع من الأمهات ، لم يسعفها ماضيها في فهم هذه العلاقة الجديدة ، ولم تستوعب النقلة النفسية والصدمة المعرفية التي نقلتها من أن الأم مجرد صورة معلقة في جدار غرفتها إلى هذه الإنسانة والتي أصبح التواصل معها أكثر واقعية والإحتكاك بها الجسدي وطريقة التعامل اليومية معها كانت بالفعل صدمة العمر.
استمر النزاع النفسي بداخل الفتاة مدة ليست بالقصيرة والتي عانت خلال تلك الحقبة من أزمات نفسية وحروب داخلية ونزاعات بين الأفكار السابقة والجديد إلا أنها وبرغب عن استيعابها لهذه الفكرة الا أنها إقتنعت بالواقع وتعاملت معه بشيء من الحذر الذي ما لبث أن زال مع الأيام وتلاشى وأعقبة تعلق قوي ورابطة جياشة لتعويض الفراغ الناتج عن هذه الحقيقة الجديدة.
وعند انتهاء الدراسة الجامعة وعندما حان وقت العودة كانت لابد من حل أزمة قادمة والتجهيز لحرب تشتعل بفتيل العودة للمربع الأول والرجوع إلى الأم الصورة والتعامل مع الواقع الجديد القديم وحقيقة أن أمها مجرد صورة !
والأسئلة التي طرحتها على نفسها كانت كثيرة ، هل تترك الحقيقة وتعود للخيال؟ هل تنسف الأحاسيس والعواطف التي تتجسد على الواقع وترجع الى الأحلام والفراغ؟ أم أن الحلم قد يصبح أمر واقع رغم عدم تحقِقْه؟ هل تفرح بالعودة أم تحزن؟ هل تحرق الصورة من أجل الجسد أم تبقي على الصورة وتهجر الجسد؟
وكانت في كل مرة تجاوب عن كل سؤال بجواب واحد كان يجعلها تصل لدرجة الخضوع الإجباري بل كانت تناهز درجة القناعة ، وكانت الإجابة رغم سذاجتها وبساطة فكرتها إلا أنها كانت اجابة صحيحة ألا وهي أن أمها مجرد صورة معلقة على حائط…
بقلم : سعيد محمد الشعشعي
تقوم المجتمعات الصحيحة والقوية على فكرة تقبل الآخر بما فيه من خير وشر ، وعلى تناقل الأفكار ومحاولة التقريب والإندماج ، ونبذ التفرقة والتعصب للأفكار وهذا أساس متين يجعل المجتمعات قوية في مواجهة الأمواج المتلاطمة من حولها.
إن الإنتماء للأفكار لا يعني الإنتماء للأشخاص ، وعدم قبول فكرة لا يلزم بالضرورة عدم القبول بالآخر وإلا نشب الصراع وتخلخل جدار الوحدة وهدمت أعمدة التعايش بين الناس.
كنا نعيش في مجتعنا متقبلين للإختلاف معترفين به نعمل سوياً لإنجاح مسيرة البناء والتقدم واللحمة الوطنية ، كنا نجتمع على أننا أبناء لأرض واحدة بغض النظر عن إختلاف مشاربنا الفكرية والإجتماعية.
بتنا نسمع الآن بعد هذا الرخاء والإرتخاء عن نشر نقاط الخلاف لا الإجتماع ، ونبحث عن السلبيات لا الإيجابيات ، وأصبحنا لا نرضا بالإختلاف ونعده خلاف ، وننزعج أيما إنزعاج من الآخر الذي يطرح فكره لانه آخر وفقط.
كانت الدول فيما قبل تسعى لنشر فكرة التنوع وإختلاف الثقافات والأفكار لأن في تنوعها إثراء للحياة المجتمعية وإحياء لتقبل العيش المشترك وإذابة الفروق ليصب في مجرى التطوير والنهوض الثقافي والسياسي والديني.
من قال أن الإختلاف مذموم ومن قال أن نشر الأفكار يعني التفرق ومن قال أن التغيير يعني الدمار ، بل العكس صحيح ؛ فالإختلاف فيه بناء للثقة ، ونشر الفكر هو أساس التطوير والنهضة ، والتغيير سنة الله في خلقة وهو آت لا محالة فلماذا الخوف؟ ولماذا هدر الطاقات والمدخرات في محاربة أمر موجود لا يمكننا إنكاره ولا كبته ولا حتى إنهاءه.
بالفعل نحن نعيش في مجتمع يخاف الإختلاف ويحاربه بالخلاف!