الموسم الأخير

Posted by سعيد محمد الشعشعي On الأحد، 30 أغسطس 2015 0 التعليقات

في ستينيات القرن الماضي وفي وسط العاصمة الفرنسية باريس تعيش عجوز تبلغ من العمر عتيا في شقة تقع في الطابق الثالث من بناية وسط الشارع. 

تعيش هذه العجوز الوحيدة ، حيث ليس لها ولد ولا أحد يعينها في كبرها ، فقد مات أبناءها الثلاثة منذ بضع سنين. 

كان أبناءها الثلاثة ( ولدين وفتاة ) قد تركوها تعيش لوحدها منذ أن كان عمرها ٤٠ عاماً فقد رحل أحد الولدين للعيش في أحدى الدول الأوروبية للعمل ولم تسمع عنه شيء إلا أنه قد مات بسبب حادث أثناء العمل. 

أما الفتاة وأخيها الآخر فقد توفيا بمرض السل الذي أنتشر في أوروبا منذ مدة طويلة ، لتعيش العجوز باقي عمرها وحيدة عاجزة لا تقدر على شيء. 

كانت تعيش على المال التي تحصل عليه كمعونة من الدولة والذي يكاد يكفي لدفع إيجار المنزل والمأكل والمشرب ، فقد كانت فقيرة لا يمكنها أن تصرف على شيء آخر ، لا دواء ولا لرعايتها ولا حتى على مستلزمات الحياة البسيطة. 

لا تخرج من منزلها سوى لأخذ المبلغ المصروف لها بشكل يومي ثم تذهب لشراء طعامها وتعود لمنزلها ولا تخرج منه إلا في اليوم التالي ولنفس الغرض. 

استمرت على هذه الحالة ما يزيد على الخمس سنوات ، لا يقطع روتين حياتها سوى القطة التي بدأت تزورها منذ أسبوع مضى لتقاسمها الطعام وبعض الماء. 

فرحت العجوز بهذه القطة والتي أرجعت لها روح الحب والعطف وأصبحت ضيفتها الدائمة والوحيدة والتي كانت تشعرها بالحياة فكانت تخاطبها وتطعمها وكأنها أحد ابنائها الذين تركوها منذ زمن.

في عصر احدى أيام الشتاء الباردة ، وبينما كانت العجوز تطعم القط كعادتها ، اذ يطرق أحدهم الباب طرقات سريعة متتابعة بشكل مفاجئ ، تسائلت العجوز من يا ترى الذي يطرق الباب ولم يدق الباب منذ سنوات طويلة؟

فلما فتحت كان هناك شاب في مقتبل عمره ، وسيماً عليه ملامح الوقار على الرغم من ملابسه الرثه التي توحي بمدى فقره وضيق ذات اليد. 

بادر الشاب بالتحية ثم طلب أن يدخل بسبب البرد القارص في الخارج إلا أن العجوز وبكل أدب ولباقة رفضة طلبه معللةً أنها وحيدة ولا تستقبل الضيوف ابداً ، إلا أنه ألح عليها وأن لديه موضوعاً مهماً لابد لها أن تسمعه ولكن ليس قبل أن يدخل وبعد إلحاح وافقت على طلبه. 

بعد أن دخل الشاب وشعر بالدفء والراحة ، سألت العجوز ما الذي يريده ، وما هو الموضوع المهم الذي يريد أن يطرحه عليها؟

قال : أنا أسمي بيير وأنا أبن برنالرد أبنك الذي مات قبل سنوات في بلجيكا أثر حادث أثناء العمل وقد جئت منذ شهر وأنا أبحث عنكِ وها أنا وبعد عناء وجدتكِ. 

شعرت العجوز بالصدمة ، فهي لم تكن تعرف أن أبنها كان لديه أبن وهو شاب الآن بل ويقف أمامها ، كيف ذلك وبعد كل هذه السنين من الوحدة والفقد ؟!

لم تستوعب الصدمة بل وقامت غاضبة تصيح لتقوم بطرده من منزلها وهي تقول ابني مات ولم يكن لديه ابناء ، أنا ليس لي أحفاد ، أخرج أخرج. 

خرج الشاب وهو يحاول أن يفهما أنه لم يكن يعلم أن والدة أباه لا تزال على قيد الحياة ، إلا قبل عام من الآن وأنه كان في شوق ليتعرف عليها بل ولينتقل للعيش معها ، إلا أن العجوز قامت بطرده خارجاً. 

جلست العجوز وهي في حالة من الصدمة ، والإرهاق والغضب وشيء من الحزن والفرح كان بداخلها عاصفة من الأحاسيس تجول بخاطرها ، مجموعة من كل شيء. 

بعد يوم من زيارة الشاب لها ، وبعد أن زال ما بها من غضب وحزن ، جلسة وهي تفكر وتتسائل ، هل هذا الشاب صادق؟ هل هو ولد أبنها؟ هل فعلاً جاء للبحث عنها؟ ما الذي يمنع أن يكون كذلك؟ ما الذي يجبره على أن يتكبد عناء البحث والسفر وان كان كاذب؟ وحتى لو كان كاذب ما الفائدة التي ينتظره من عجوز لا تملك من حياتها شيئًا ولا حتى بقي من العمر الكثير؟

وقررت أنها ستجلس مع الشاب لتسمع منه ومن ثم تقرر إن كان صادقاً أم غير ذلك؟ ولكنها جلسة تنتظر يوم ويومان بل وثلاثة أيام ولم يأتي الشاب مرة اخرى يا ترى ماذا حدث معه؟ 

وبعد انتظار لأيام وترقب ، سمعت دق على الباب فهرعت مسرعة لتفتح الباب فإذا الشاب نفسه هو من ع الباب فاستقبلته ببشاشة وادخلته بسرعة الى المنزل ، استغرب الشاب طريقة التعامل الجديدة معه فكان يتوقع الأسوء

بادرت العجوز بالسؤال كيف مات ولدي؟ فأجابها وقص عليها سبب الوفاة وكيف كانت حياتهم قبل وبعد وفاته وأخبرها كيف أنهم عاشوا في ضيق وفقر وعوز بعد أن كانوا مستوري الحال. 

أخبرها كيف ومتى علم أن له جدة لازالت على قيد الحياة وتعيش وحدها في باريس ، وأنه اراد أن يتعرف عليها وأن يعيش معها وما العناء الذي تكبده لإيجادها. 

فرحت الجدة بالشاب وأخبرته أنها ستستقبله في شقتها ليعيش معها وأخبرته أنها لا تملك من المال سوى ما تاخذه من الضمان من مصروفات لا تكاد تكفيها لحياتها هي فكيف وهو يعيش معها. 

عاش الشاب عندها وكان كل يوم يذهب من الصباح الباكر ولا يرجع الى في آخر الليل وهو يحمل القليل من الطعام يقدمه للعجوز. 

تغيرت حياة العجوز بعد أن كانت لا تعيش الا من أجل قطتها أصبح لديها من يشاطرها حياتها ويحاول الإهتمام بها بل وإطعامها متى ما احتاجت له. 


بعد شهور من الحياة الجديدة التي أصبح يعيش في الشقة ثلاثة العجوز والشاب والقطة كانت أياماً جميلة عاشتها العجوز بعد سنين الوحدة والفراغ. 

أستمرت الحياة على حالها بضع شهور وفي احد الايام وعلى غير العادة لم يخرج الشاب من غرفته ظل يوماً كاملاً حبيس الغرفة. 

استغربت العجوز حاله ودخلت لتسأله فوجدته حزينا كئيباً يغطي وجهه الشحوب فلما سألته عن حاله وبعد الحاح منها أخبرها ما به. 

قال أنه اقترض مبلغ كبيرا من المال من رجل شرير لا يحتمل ان يتاخر عليه احد الديانة إلا يقتله شر قتله وأنه عليه ارجاع المال قريباً والا سيكون مصيره سيء. 

قالت له العجوز وهي متأسفة تشعر بالعجز أنها لا تملك شيئاً من المال لتدفع ما عليه كما أن شقتها التي تسكن فيها مجرد شقة مأجرة. 

لكن الشاب قال لها بل تستطيعين مساعدتي وظل يلتفت بنظراته حول الشقة والاثاث الذي بها وقال اعتقد أن بيع الأثاث قد يكفي. 

وافقت العجوز على بيع الأثاث بحزن إلا قطعة واحدة وهي المزهرية التي كانت هديةً من زوجها الذي ورثها من أمة. 

جاء المشتري للشقة لأخذ الأثاث فلما رأى المزهرية ألح على العجوز أن تبيعها له ولكنها رفضت فخرج ومعه الأثاث كله والشاب استلم المال وخرج. 

غاب الشاب لعدة أيام والعجوز لوحدها مع قطتها ومن دون أثاث ، كان فرشها الأرض ولحافها مجرد قطعة صغيرة من قماش لا يكاد يقيها البرد. 

جاء الشاب بعد أيام وكان في حالة متغيره لم يعد الشاب اللطيف الذي عرفته بل كان فضاً غليضاً قال لها أن المال الذي اخذه من بيع الأثاث لم يكفي وأن عليها أن تأخذ قرضاً حكومياً على راتب الضمان الذي تستلمه. 

قالت كيف ذلك وهي لا تستطيع أن تدفع الايجار ولا ان تطعم نفسها الا من هذا الراتب ولكن الشاب اخذها بالقوة واجبرها على ان تذهب معه لتوقع على أوراق القرض ليستلم المال. 

ذهبت معه مجبرة ووقعت على الأوراق وأستلمت المال وأخذه منها وذهب حتى أنه لم يوصلها للشقة بل تركها تعود لوحدها. 

رجعت العجوز لشقتها وحيدة كئيبة تبكي ضعفها وقلت حيلتها ووحدتها في شقة لم تعد كشقتها السابقة بل خاوية على عروشها لا أنيس ولا جليس ولا حتى أثاث يشعرها بالدفء. 

لم يعد لديها مال تدفع منه ايجار شقتها ولا لشراء طعامها مجرد جدران تشعرها بالظلم وحياة قاسية لم تكن تعرف فيها لحظات من الراحة حتى يآتي ظلام يقلب حياتها الى تعاسه. 

جاء موعد دفع الإيجار فلما أخبرت صاحب الشقة أنها لا تستطيع دفع الايجار أمهلها أيام حتى تدفع والا سيقوم بطردها. 

أخبرته بما حدث معها ، فرق لها وقال انه لا يستطيع تركها تعيش في شقته وهي لا تدفع لكنه سيقدم لها على طلب الإلتحاق بمصحات كبار السن ودور العجزه وسيحاول أن يتم قبولها. 

بالفعل قدم الطلب وتم قبولها وانتقلت العجوز وقطتها والمزهرية إلى دار العجزة والى حياةٍ جديدة تتمنى أن تكون أفضل من سابقتها.

وبعد عدة أشهر جاء الى دار العجزة شخص غريب يسأل عنها فلما قابلها عرف بنفسه أنه تاجر أثاث وأنه من اشترى أثاث شقتها السابقة. 

فرحبت به وسألته عن حاجته فقال المزهرية هي من جئت من أجلها قالت العجوز لا يمكنني أن أعطيك اياها فهي هدية قيمة ولكنه أصر على شرائها وقال أنها تحفة نادرة وقيمتها عالية جداً. 

قال أن سيقيم مزاد على هذه المزهرية وأنها ستجلب لها الكثير والكثير من المال الذي سيخرجها من هذه الدار لتعيش مكرمة في بيتها. 

وافقت العجوز على بيعها وأقيم المزاد الذي بيعت فيه المزهرية بقيمة عالية ليتم دفع المال الكثير للعجوز والتي فرحت فرحاً شديداً

قامت العجوز بشراء منزل لها كبير جداً فيه من الخدم ومن يرعونها من ممرضات و عناية ما يجعل ما تبقى من حياتها سعيدة جداً

لكن للأسف لم تمضي أيام حتى ماتت العجوز المسكينة وهي لم تستمتع بالمنزل الجديد ولا بحياتها السابقة لينتهي الموسم الأخير من حياتها وهي سعيدة رغم قِصرها. 

0 التعليقات :

إرسال تعليق